آثار المعاصيإن المعاصي التي يقترفها الناس آناء الليل وأطراف النهار لها آثار مدمرة على الفرد والمجتمع والحياة كلها؛ وذلك أنّ قوام الحياة وصلاحها إنما هو في الطاعة والاستقامة على أمر الله، والتقيد بشرعه الحنيف، وكلّ انحراف عن أمره، وكل اتباع لنزغات الشيطان.
وكل تفلُّت من دينه إنما هو ركض وراء السراب، وضرب في تيه الشقاء، ولا بد أن يلمس الإنسان آثارها النكرة في نفسه وحياته، ثم في أخراه يوم لقاء ربه.
والمقصود من الحديث عن آثار المعاصي هو التحذير من مغبة الاسترسال فيها، وإطلاق العنان للخوض في حدود الله، وهو من باب قول القائل قديمًا:
عرفتُ الشـر لا للشـ *** ـر لكـن لتوقيـه
ومـن لا يعـرف الشرّ *** من الخير يقـع فيـه
من آثار الذنوب والمعاصي
وهذه بعض تلك الثمار المُرَّة التي يجنيها العصاة الآثمون من وراء المعاصي:
أولًا: نسيان العلم وذهاب الحفظ، ويا لها من عقوبة! وما أقساها على أهل العلم وطلبته!
وذلك أن العلم نور يقذفه الله في القلوب العامرة بطاعته المنيبة إليه سبحانه، والمعصية ظلمة قد علاها قُتار الشهوات الهوجاء، وأنَّى للنور أن يأنس بالظلام؟!
ولذلك رُوي أن الإمام الشافعي-رحمه الله- لما جلس بين يدي إمام دار الهجرة الإمام مالك-رحمه الله- ورأى عليه مخايل النجابة والذكاء بادية، وأعجبه وفورُ عقله وكمال حفظه، قال له ناصحًا: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية.
والشافعي-رحمه الله- هو القائل في الأبيات التي سارت بين طلبة العلم مسير الشمس:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصـي
وأخبـرني بـأن العلـم نورٌ *** ونور الله لا يُهدى لعاصـي
وقد يتساءل إنسان فيقول: إن فلانًا من الناس قد أُعطيَ حفظًا واستحضارًا على فجوره الذي عُرف به في الناس، فكيف ذلك؟!
فنقول: اقرأ كتابَ الله تعالى تجد الجواب واضحًا، يقول الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف: 175، 176].
يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله- معلقًا: "ففي الآية دليل على أنه ليس كل من آتاه الله العلم فقد رفعه به، إنما الرفعة بالعلم درجة فوق مجرد إتيانه".
كم من فاجر كان حظه من العلم قيل وقالوا؛ ليكون ذلك حجةً عليه عند الله، دون حقيقة العلم التي تورث الخشية والإنابة.
فيا معشر طلبة العلم، لنتقِ الله في أعز أيام العمر التي صُرفت في الحفظ والركض وراء عرائس العلم، أن تذهب بها غوائل المعاصي الجامحة، واعلموا أن سوط العقاب بالمرصاد.
ثانيًا: ومن أعظم آثار المعاصي وأخطرها على العبد الوحشةُ التي تحدثها المعاصي بين العبد وربه، واستثقال الطاعات، واستمراء الفواحش، واعتيادٍ لها.. ويا لها من سكرة! وما أشد عماها على القلب! إن لم يُمدّ صاحبها بنفحة من نفحات الرحمة والهداية، فإنه واقع في حُفرة من حفر الشقاء والعذاب الواصِب لا محالة.
إن حياة المرء الحقيقية إنما هي حياة الطاعة، وشعور العبد أنه خلع عنه ربقة العبودية للخلق، وآوى إلى ظلال العبودية الحقة التي ترفعه عن الطين وجواذبه، ليحط رحال القلب في ساحات العبودية لله رب العالمين؛ ولهذا جعل الله الكافر ميتًا غير حي، فقال: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21].
وتأملوا بالمقابل في قول بعض الصالحين المخبتين الذين وجدوا برد الطاعة والإنابة، إذ يقول: "إنه لتمرّ بالقلب لحظات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير عظيم".
إنّ في الدنيا جنة لا يدخل جنة الآخرة من لم يدخلها، إنها جنة الطاعة والعبودية التي يُحرم منها العصاة الفجرة.
ثالثًا: من آثار المعاصي النكرة- الحيرة والشقاء وتمزّق القلب في شعاب الدنيا، واللهث وراء السراب، واتباع الشياطين المتربصة على أفواه السبل المنحرفة عن السبيل الحق.
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا مستقيمًا في الأرض، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وشماله ثم قال: "هذا سبيل الله، وهذه السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليها"، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
وذلك أن الله تعالى هو المتفرد بالهداية وحده؛ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]. وكل انحراف عن منهجه-سبحانه- الذي وضعه طريقًا للهداية، إنما هو خبط في بيداء التيه، وجنيٌ للشقاء المر الذي هوت فيه الشعوب الكافرة التي ولّتْ ظهرها للحق المنزَّل.
يقول العلماء: إن هناك أربعة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح على الإنسان بمقتضى فطرته وهي: من أين جئت؟ وإلى أين المصير؟ ولماذا؟ وكيف؟ وكل خلل في الإجابة عن واحد من هذه الأسئلة الخالدة يعني الشقاء والدمار في حياة الإنسان، ولا وجود للإجابات الصحيحة إلا في الدين الحق.
وإن نظرةً واحدة على واقع الغرب الكافر وما يعيشه من ضياع فكري وتفسُّخ أخلاقي، بل ونزول بالإنسان إلى دركات الحيوانية الهابطة تنبئك بالحقيقة؛ لأن بعض فلاسفتهم المشهورين أطلق مقولته الفاجرة: أنْ لا هدف ولا غاية من وجود الإنسان. فظهرت في أوربا جماعات تسمى بالخنافس تتسافد في الطرقات تسافُد الحُمُر، وتعيش عيشة البهائم البكماء، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
رابعًا: ومنها تسليط الأعداء، وذهاب القوة، ونزع الهيبة من قلوب الأعداء.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة من الصغار على من خالف أمري، من تشبه بقوم فهو منهم".
إن صحائف التاريخ خير شاهد على عجيب تأثير المعاصي في الأمم، لقد كانت أمة الإسلام في سالف دهرها أمة موفورة الكرامة، عزيزة الجانب، مرهوبة القوة، عظيمة الشوكة، لكنها أضاعت أمر الله، وأقْصت شريعته من حياتها، وراجت أسواق الشرك في أصقاع كثيرة في العالم الإسلامي؛ فصار أمرها إلى إدبار، وعزها إلى ذل، وجثم على صدرها ليل طويل من الاستعمار الكافر، ولولا أنها الأمة الخاتمة لأصبحت تاريخًا دابرًا تحكيه الأجيال!!
وليس الذي حلَّ بنا ويحلُّ ظلمًا من ربنا.. كلا وحاشا، فهو القائل في الحديث القدسي الصحيح: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا"، وإنما هي السنن الربانية النافذة التي لا تحابي أحدًا؛ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان مرفوعًا: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها". قلنا: يا رسول الله ، أمِن قلة منا يومئذٍ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تُنزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن". قالوا: وما الوهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: "حب الدنيا وكراهة الموت".
إننا-معاشر المسلمين- اليوم نئن تحت وطأة الذلّ المسلّط علينا، وكثير من المسلمين لا يزالون غافلين عن سبب البلاء الذي بيّنه رسولنا صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث صحيح؛ فعن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلَّط الله عليهم ذلًا لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم"[1].
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إننا كنا قومًا أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".
من هنا كانت البداية، ومن هنا يكون البدء، ومِن تركِنا لديننا كانت بدايةُ رحلة الذلِّ والضياع في تاريخ أمة الإسلام، ومن الرجوع إلى ديننا وتوبتنا إلى ربنا يكون البدء إذا أردنا العودة إلى العزة القعساء، والشرف المفقود.
إن كلَّ تائب منَّا من معاصيه عليه أن يعلم أنه يكتب بذلك سطرًا في سِفْر مجد أمة التوحيد.
خامسًا: ومن شؤم المعاصي ظهور الأوجاع الفتاكة، وارتفاع البركة من الأقوات والأرزاق.
عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"[2].
هذه بعض آثار المعاصي المدمرة، وهذه بعض ثمارها النكدة، فهل من مشمِّرٍ تائب منيب؛ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
[1] رواه أبو داود وأحمد.
[2] رواه ابن ماجه وهو صحيح. [السلسلة الصحيحة (106)].
الكاتب: ناصر وراش
المصدر: موقع المنبر